التصوف الإسلامي و الصوفيين
بين ثنايا الفقه العقيدة الإسلامية، نشأ طريق فرعي مختلف عن باقي الطرق حيث تمشي فيه بقلبك لا قدميك، إنه التصوف الإسلامي الذي يعاش بالتجربة و يذاق بالحس ويُشهد بالبصيرة، لايقرأ بالكتب والنصوص فقط.
كما أن الصوفي ليس شخص عابد لله في خلوته بل عاشق خطأ في طريق النور، ليطهر قلبه ونفسه من الشوائب ويصعد مراتب الإحسان ليصل إلى مقام الحب العظيم حيث يوجد الله.
يترك التصوف الدنيا خلفه ولا يغيرها إي اهتمام، دون زهد بها أو كرهاً أو هرباً بل ليعود إليها بقلب طاهر ونفس صافية شفافة، حيث يبصر بنور الله
الصوفيين يمثلون في رابعة العدوية حين بكت حباً لا خوفاً
والجنيد حين ذاب في الفناء، والرومي حين رقص رقصة الدراويش في حضرة المطلق وشمس التبريزي حين علّم أن الطريق إلى الله يبدأ من داخلنا.
في زمننا هذا يظهر التصوف مثل صوت الروح الخافت الذي يقول الآية الكريمة: "ارجعي إلى ربك راضية مرضية".
مفهوم التصوف الإسلامي ونشأته
التصوف هي الجانب الروحي من الإسلام الذي يعني تنقية النفس و تطهير القلب، وعمل الإحسان الذي أوصى به رسولنا الكريم محمد صلي الله عليه وسلم.
"أن تعب الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
التصوف ليس مذهب فقهي بل توجه سلوكي و روحي، يعنبر المذاهب الأربعة حيث يسعى أصحابه إلى تحقيق المعرفة الذوقية بالله والتي تتجلى في معرفة قلبية وجودي تتجاوز الفهم العقلي المجرد.
خصائص التصوف
- التركيز على القلب والنية
- السعي الروحي للكمال
- زهد الدنيا وعدم التعلق بها
- تقديس المحبة الإلهية
نشأة التصوف وتطوره عبر التاريخ
عند البحث في تاريخ الفكر الإسلامي وتحديداً في المصادر التاريخية مثل كتاب الرسالة القشيرية للمؤرخ عبد الكريم القشيرية وكتاب طبقات الصوفية للسلمي نكتشف أن التصوف لم يظهر فجأة بل كان ثمرة تطور الوعي الروحي في الإسلام، الذي بدأت تظهر ملامحه في القرنين الأول و الثاني الهجريين، وتحديداً في البصرة والكوفة و مكة و المدينة، حيث عاش الصحابة والمسلمون في حينها في أجواء الزند في الدنيا والانشغال بالآخرة.
وبما إن الزهد هو البذرة الأولى التصوف وفي حينها أم يكن يعرف التصوف كـ مصطلح أو منهج بل كان يعني ترك التعلق في الدنيا و ملذاتها، وطردها من قلبه ومن أهم الزاهدين في ذلك الوقت هم
الحسن البصري 110 هـ الذي كان واعظاً وجمع بين الفقه و صفاء القلب كما كانت خطبه تدعو إلى التوبة والخوف من العذاب.
رابعة العدوية 185 هـ حيث نقلت الزهد الى مرتبة أسمى من الخوف إلى الحب، حيث أصبح حب الله هو دافعها للعبادة وليس الخوف من النار أو الطمع في الجنة حيث قالت:
"اللهم إني كنت أعبدك خوفاً من نارك فادخلني فيها، وإن كنت أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك حباً لك فلا تحرمني رؤيتك".
اختلف المؤرخون حول أصل كلمة تصوف، بعضهم قال إنها من الصوف لباس الزهد وآخرون قالوا إنها من الصفاء القلب و بعضهم ربطوها بأهل الصفة الذين كانوا يرافقون النبي صلي الله عليه وسلم في مسجده ويعيشون حياة بسيطة وزاهدة.
في القرن الثالث الهجري
بدأ التصوف يتحول من حالات فردية ومواقف أخلاقية إلى علم له أصول ومصطلحات ومن إعلام هذه المرحلة:
ذو النون المصري 245هـ وهو أول من تحدث عن المعرفة الصوفية وموضوع الفناء والبقاء.
بشر الحافي و السري السقطي حيث جمعوا بين الزهد و التجربة القلبية.
الجنيد البغدادي 297 هـ الذي وضع أساس التصوف السني المعتدل، واعتبر إن الصوفي الحقيقي هو من لبس الصوف على الصفاء وكان حاله موافقاً لعلمه وعلمه دليلاً على معرفته.
في نهاية القرن الخامس الهجري
تنظم التصوف بطرق مختلفة وتم تبني طرق صوفية لها اوراد وخلوات وأسس تستند اليها، وهذا مهد لمرحلة جديدة من التصوف الجماعي.
في القرن السادس الهجري
وبعد أن تم ترسيخ أسس التصوف كعلم وسلوك ، بدأ ياخذ شكل منظم وجديد من خلال الطرق الصوفية التي لم تكن تجمعات عشوائية بل كانت مدارس روحية مناهج تربوية، وأساليب عملية لتزكية النفس ومرافقة الشيخ للمريد بكل خطواته في مسيرته نحو الله.
أسباب ظهور الطرق الصوفية
كما ذكرنا سابقاً إن الطرق الصوفية تنظمت في نهاية القرن الخامس الهجري وبداية القرن السادس الهجري وكانت أسباب هذا التنظيم هي:
- ضبط التجربة الصوفية لكي لا تخرج عن الشريعة.
- الرغبة في انتشار التصوف في المجتمعات، حيث لم يعد محصوراً في النخبة بل تحول إلى تيار شعبي لكل الناس.
- حاجة الناس إلى شيخ مرشد وسند لأن النفوس تحتاج إلى تربية روحية جماعية وجماعة تساندها في الطريق.
الطريقة الصوفية
تعرف الطريقة في المذهب الصوفي بأنها: منهج علمي تأسس لتهذيب النفس يقوم على الصحبة و الذكر و التدرج في المقامات، تحت إشراف شيخ مجرب. ولكل طريقة:
- شيخ مؤسس ينسب له الاسم
- سلسلة سند روحي ينسب الى النبي صلى الله عليه وسلم.
- أوراد و أذكار خاصة تتلى صباحاً و مساءً.
- مراحل سلوك يتنقل فيها للمريد مثل التوبة و المجاهدة والإخلاص.
أهم الطرق الصوفية و انتشارها
1_ القادرية: أسسها الشيخ عبد القادر الجيلاني في بغداد عام 561 هـ تتميز بالتوازن بين العلم و العمل وتأكيد الشريعة، كما انتشرت في العراق والمغرب و غرب إفريقيا.
2_ الرفاعية أسسها أحمد الرفاعي عام 578 هـ في العراق، تتميز بأنها تميل الزهد الشديد والخلوات وبعض الطقوس الجماعية، انتشرت في الشام و تركيا ومصر.
3_ الشاذلية: أسسها أبو الحسن الشاذلي في عام 656 هـ وتميزت بفكرها المعتدل والانفتاح على الحياة دون التعلق بها.
كما انتشرت في المغرب العربي ومصر واليمن.
4_ النقشبندية: أسسها بهاء الدين نقشبند عام 791 هـ تتميز بأنها تركز على الذكر الخفي و مراقبة القلب وانتشرت في الشام و تركيا و الهند وآسيا الوسطى.
5_ التيجانية: أسسها أحمد التيجاني 1230هـ تتميز اعتمادها على أوراد خاصة ومحبة الرسول الكبيرة، انتشرت في شمال وغرب إفريقيا السنغال و نيجيريا والسودان.
التصوف بين القبول والرفض في المجتمع
لقد كان التصوف محط جدل منذ بدايته وإلى الآن ما زالت الأسئلة مختلفة في عقول المفكرين والفقهاء والعلماء، حيث تتوارد الأسئلة فيما إذا كان التصوف جوهر الإسلام أو بدعة دخيلة وقد حاد بمن اتبعه عن الشريعة؟
أسباب الجدل
- استخدم المتصوفون مصطلحات غامضة لم يضعو لها تفسير مثل الفناء و الحلول و وحدة الوجود
- ادعاء أمور غير منطقية مثل المشي على الماء وعلم الغيب وقراءة الأفكار، والتي راها بعض العلماء إنها مبالغة ودجل
- اعتبار المشايخ و الأولياء كوسطاء مع الله وهذا اقتراب من الشرك
- ممارساتهم المختلفة مثل التمايل والرقص في بعض الطرق وقد وصفها العلماء بأنها مخالفة للسنة.
التيار الرافض
إبن تيمية حيث ميز بين التصوف الصحيح والباطل كما رفض، البدع و الغلو لكنه اعترف الزهد و التقوى ولم ينكرها.
إبن الجوزي الذي نقض السلوكيات المبالغ فيها في كتاب اسماه تلبيس ابليس
ابن خلدون الذي اعتبر إن التصوف كان صحيحاً لكن مع الزمن دخلته مظاهر الانحراف.
التيار المعتدل
الامام الغزالي الذي رأي بالتصرف لتزكية للنفس، حيث جمع بين الفقه و التصوف في إحياء علوم الدين.
إبن القيم وهو من المنتمين إلى مدرسة إبن تيمية لكنه أشاد بأهل التصوف السني في كتابه مدارج السالكين.
التيار المؤيد ويرى أنصار هذا التيار إن التصوف هو روح الإسلام وإن الانحرافات، ليست من جوهره بل من سوء الفهم و التطبيق حيث قال الامام مالك:
"من تفقه ولم يتصرف فقد تفسق، ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق".
من أشهر أعلامه رابعة العدوية و جلال الدين الرومي و شمس التبريزي.
أشهر الكتب التي تحدثت عن التصوف
تناولت الكتب موضوع التصوف منذ نشأته عندما كان يطلق عليه إسم الزهد، والى الان في هذا المقال اخترنا لك أفضلها مثل:
📚 كتب الإمام الغزالي
كتاب «إحياء علوم الدين» (The Revival of Religious Sciences) – حيث يعد من أهم وأشهر المراجع في التصوف ألفه الغزالي في القرن الثاني عشر، ويوجه المؤمنين نحو بناء؛ حياة روحية متوازنة تراعي النفس، والعبادة والأخلاق.
كتاب «كيفية السعادة» (Kimiya-ye Sa‘ādat) أو «الخيمياء الروحية» – ويعد اختصاراً روحانياً لـ«إحياء» ويركز على تنقية القلب بمعادن أربع: معرفة النفس و الله و الدنيا والآخرة
مؤلفات جلال الدين الرومي
«فِيْهِي مَا فِيْهِي» (Fihi Ma Fihi) – مجموعة دروس ومحادثات وصفيّة تشرح أساسيات، التصوف بلغة سهلة جمعت قبل وفاته ما بين 1260–1273
«ديوان شمس التبريزي» (Divan-i Shams-i Tabrizi) – ديوان شعري غني بالغزليات والحكم الصوفية حيث يفيض بشوق المحبة الإلهية، بعد رحيل شمس.
«المثنوي» (Masnavi‑i Ma‘navi) – الطبعة الشعرية الضخمة للرومي، بأكثر من 50,000 بيت حيث تعد موسوعة روحية مستندة إلى القرآن والحديث.
📖 كتب أخرى كلاسيكية في التصوف
«الرسالة القشيرية» (Al-Risala al-Qushayriyya) – مرجع تأسيسي صفيّ وضعه القشيري عام 1045 واستخدم منذ قرون كدليل لمصطلحات، ومبادئ التصوف.
«الكيمياء الروحية» و «فتح الغيب» للإمام عبد القادر الجيلاني – ومن مؤلفاته التي يوصي بها كثير من المهتمين، بالمسار الصوفي وتمت ترجمتها ومتابعتها، عبر العصور
«كشف المحجوب» لأبو الفضل الحجْوَري – الذي يعد من أوائل شروح التصوف لدى العامة ويتميز بالسرد القصصي؛ لأعلام التصوف وأسرار الطريقة .
في النهاية نجد أن التصوف الإسلامي ليس تيار فكري أو سلوك روحي فقط بل هو رحلة وجودية، يتم البحث فيها عن المعنى العميق للحياة، وعن الصلة الخفية بين العبد و ربه حيث يكون التصوف ملجأ للروح الباحث عن الصفاء، في شوائب هذا العالم كما يذكرنا؛ بأن جوهر الدين ليس بما ظهر من العبادات بل بما بطن مثل حضور القلب و صفاء النية وسمو الأفعال وتطابقها مع الأقوال
وبين الحب والزهد الفناء يبقى التصوف دعوة للتأمل، ولعيش الإيمان كخبرة حية تطبق وليس نصوص جامدة تحفظ فقط،